2016-06-07

قراءة في شجر الغواية لمحمد حربي


بقلم : زكريا نوار

زكريا نوار
إن ما يكتبه الشاعر محمد حربي يثيرني جدا، فلا أجد مناصا من أن ألطخ بياض ورقي بسواد حبري، لعلي أصل معه إلى تجربة الذروة كما سماها كولن ويلسن، إن نص الغواية من القراءة الأولى يجعلك تغرق في بحور العرفانية لكبار المتصوفة.
إنها تجربة فريدة من نوعها، النص في قمة الشاعرية والتكثيف، يمكنني أن أحكم عليه أنه ديوان كامل تم ضغطه ليكون نصا واحدا. سنظلمه حين نقول عنه أنه جميل.
في المقطع الأول يقول عن نفسه المتماهية مع شيء آخر لا يمكن تحديده بالضبط، أنه لا يوجد في أي مكان، لماذا؟ لأن ما كتب في كتاب أو كتعبير شارعي على جدار يتحول من لحظته إلى ماض وهو لا يمكن أن يكون تاريخيا ينتهي في لحظة الميلاد إنه المستقبل والاستشراف:
ليس من طبيعتي الحديث
عن الماضي
أنا صيرورة التراب
بين النار والعدم
بين النور والظلام مملكة بابها
أنا
مفتاح السؤال فيها
ومفترق الطرق.
كما راقني استعمال كلمة أنا في نفس المقطع حيث جعلها مفصلا بين سطرين تكون تابعة للسطر الأول وتابعة للسطر اللاحق:
بين النور والظلام مملكة بابها
أنا
مفتاح السؤال فيها
ومفترق الطرق.
فهو باب مملكة التجلي، وهو مفتاح السؤال، الذي هنا يقودني عبر تناص خفي إلى قصة السؤال: ما مفتاح الجنة؟
وجنة الفرد في الدنيا يحملها في داخله لأن الجمال كما تقرر مارجريت وولف هانجرفورد: الجمال والحق والعدل والإنصاف جميعها تكمن في عين من ينظر إليها.
في المقطع الثاني يفتح الشاعر إحالات عدة إلى يوسف وموسى ونوح عليهم السلام، حيث التناقضات الماء والنار، حيث لا تعرف بالضبط هل نتحدث عن وجهين لشيء واحد أم التناقضات تجتمع في القطعة الواحدة:
هاته الإحالات يجعلها منصة انطلاق إلى فكرة أنه لا يمكن حصره في مكان لهذا عليه أن يلجأ إلى قلبه ليراه، فالله لا يُرى إلا بالقلب فقط:
ولا بين أعمدة المعابد تراني
في قلبك
أنا والله
معاً
لا صراع ولا جدل
لك الطريق
خطوة واحدة
وتعرفني
عليه فقط بخطوة واحدة جريئة لكي يراه، لكنها خطوة يُقال عنها ما قال همنغواي عن الكتابة: عملية سهلة غير أنها في الواقع أشق عمل في العالم.
بين الشاعر والمتلقي تمازج يظهر في أن الأول يصنع النص والثاني يعيد تشكيله بما يراه، إنه تبادل الممالك أو تبادل الأدوار شبيه جدا بالخداع الذي يمارسه الموضوع والخلفية على مبادئ الجاشطلت، هذا ما يقوله محمد حربي في المقطعيين المواليين من:
دمٌ مصفودٌ منبجسٌ
من بئرٍ مخضَّبة بالشرايين
تسحب الروح
إلى ناحية الجسد
في كل حشرجة دم أوطريق مماثل
**
بيني وبينك المرآة
والجدار لا يعرف سوى تحنيط الصور
فادخلْ مملكتي أدخلُ مملكتَك
ولا تبارزْني بما لا ترى
ثم تتعدد الصور بأشكال بارعة لنفس المضمون كأنك تقرأ متعدد، وفي الحقيقة تكرار لنفس الموضوع، ليخبر أنه لا شيء مما يُرى ويُعرف، مما تدركه الحواس، هاته الحواس مادية بحتة لا يمكنها معرفة الماوراء، وهذا الكون لا يمكن أن يكون فيزيقا فقط.
على المتلقي أن يجد حاسة سادسة يمكنه بواسطتها الإدراك، الإدراك لماوراء الحواس، حتى يتمكن من: أعرف سر الخلاص المُلْقَى في البحر.
كل الأسرار يكمن حلها بألفاظ يسمونها كلمات كنهها المحبة الطاغية، فمن يريد الوصول والارتقاء عبر المراتب، عليه أن يلج الباب بين العالمين ليحصل على القرب:
وهناك أنتظرك سماداً لحقل فسيح يسمونه
الكلام
وناراً مشتعلة يسمونها العِشق
فادخل واقترب.
جعل الدخول الناتج عن الخطوة الأولى الشجاعة تـُغنِم الاقتراب، ليفتح تناصا لمجال قرآني لسورة العلق، حيث بدايات العلم الإلهي ورحلة التنوير، وتحرير العقول الناس من الناس.
يخرج في نهاية المطاف كما بدأ أنه من الأصل تراب، تراب صار هو، صار شاعرا، كما صار الرماد رمحا، وكما اثمرت الشجرة نارا ونورا:
قدّستَ رمادي ونفختَ فيه حتى استوى على الارض رُمحاً
طارَ الذي كان في المرايا
وعلى الماء أرض تترنّح سَكْرَى
وفي الموسيقى أعودُ بلا شياطين تعطّلَت عن العمل
وشجرتي تثمر نارا ونورا
وأنا من تراب.

شجرة الغواية
***
لن تجدني في كتاب
ولا مقهى أو جدار
يلُمُّ دُخاني المقدس
ليس من طبيعتي الحديث
عن الماضي
أنا صيرورة التراب
بين النار والعدم
بين النور والظلام مملكة بابها
أنا
مفتاح السؤال فيها
ومفترق الطرق
***
لا تبحثْ عنّي في الأخبار القديمة
لست في بئر تخطف الأنبياء رهناً
وتعشق ناراً على جبل.. تغوي نبياً يحمل الماء
ولا بين أعمدة المعابد تراني
في قلبك
أنا والله
معاً
لا صراع ولا جدل
لك الطريق
خطوة واحدة
وتعرفني
***
دمٌ مصفودٌ منبجسٌ
من بئرٍ مخضَّبة بالشرايين
تسحب الروح
إلى ناحية الجسد
في كل حشرجة دم أوطريق مماثل
**
بيني وبينك المرآة
والجدار لا يعرف سوى تحنيط الصور
فادخلْ مملكتي أدخلُ مملكتَك
ولا تبارزْني بما لا ترى
***
لستُ ثعبانَ الأساطير القديمة
ولا قمرًا توحّشَت حولَه الغابة
شجرة شجرة
فاضطجع على تلّتين
ترتعشان بما تبقّى
من هَسيسِ ملائكة نالوا البركة قبلي
***
نباحُ الكلبُ ليس صَوتي
ولا الذئبُ العقورُ هُويّتي
وصهيل جوادٍ ضالٍ في البريّة
لا ينتمي لنَسَبي
وليس الخلاء
موطني
فحاذرْ صورَكَ في المرايا
حين تجفّ المياهُ منها
وتتشقق الوجوهُ في الطلاء
**
عنّي لا تسَلْ كاهناً
أو ساحراً
لا يعرفان سرّ اللغة
ولا أرجوحة الحروف
حين التحام المعنى
بالمعنى والدم قربانٌ يتعثرُ في خُطى المؤمنين
***
أعشق النسور
لأنها تأكل الخبيث
وأخشى صقور البرّ
والنوارس
ودم القتيل نسَبٌ ممتدٌ
في الطَّواطم
كنقلةِ الريح إلى الريح
حتى يعود جسداً
مكتمل البهاء
فيعرف الدمُ لغةَ الصمت
ويرضى بساريةٍ ملونةٍ
بديلاً عن وطن
***
أعرف سر الخلاص المُلْقَى في البحر
إنه رد الماء للماء
وديعة تعود إلى أصلها
لتبقى السلالة ويعود الخلاص
في رحِمٍ آخر
وهكذا يضع الماء أوزارَه
في محيط الأبد
فتتجمّع الأمشاجُ
مَشيمةً
مشيمةً
بلا عيون
تفتش عن ذنوب
في الطين تختَمر
وهناك أنتظرك سماداً لحقل فسيح يسمونه
الكلام
وناراً مشتعلة يسمونها العِشق
فادخل واقترب
***
قدّستَ رمادي ونفختَ فيه حتى استوى على الارض رُمحاً
طارَ الذي كان في المرايا
وعلى الماء أرض تترنّح سَكْرَى
وفي الموسيقى أعودُ بلا شياطين تعطّلَت عن العمل
وشجرتي تثمر نارا ونورا
وانا من تراب
من مجموعة "يوميات شيطان متقاعد" قيد الكتابة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق