2016-06-07

قبل الطوفان


قصة : بغورة محمد الصديق

كلماتنا خفنا عليها، فقلناها
لتموت فتدفن في رحم الأيام
فتولد كلمات
أبهى
أجدى
أحلى...
الريح لم تزل كما كانت في براءتها الأولى، وحبات المطر لم تتجاوز حدود لحنها الطفولي رغم مخاوف الأصحاب. ظنوا بأن الريح ستلد عواصف لا محالة والمطر طوفانا. لذلك لم تتسرب الشكوى إلى عمق الشابة يوما، خاصة وهي تسعد كل لحظة بنغم خفي معهود صار جزءا منها ومن كل أشيائها. حتى جدارها الأبيض الذي أحاط بيتها المهيب، كادت تسمعه وهو يتباهى بنصاعته. لم يكن فيه شيء يعكر بياضه ليبقى النهار كبقية الأيام هادئا تماما هدوء ليلها الذي لم يفسد رحابته لون آخر. لكن بقدر سعادتها لهذا السيل المنتظم الذي تتوالى به الأيام كانت تحس أن لونا ما ينقص الصورة.في جيبها الأيسر خبأت صورتها بإحكام بعد أن تأملت تفاصيلها كأنما هي تراها لأول مرة ثم تمتمت: البيت جذاب أكثر هذا الصباح، وكالعادة لا بد من نظرة تمسح المكان للتأكد من بقاء النقاء على عهده، وسلامة البياض الذي يصل حد القداسة في عرفها الموروث. لكن ما عساها تقول الآن وقد رأت ما لم تر من قبل أبدا فهذه القداسة تخدش وهذا البياض يشوبه لون آخر مختلف تماما ؟.تساءلت في حيرة:" ألم تشعر قبل لحظات أن شيئا ما لا بد سيحدث"؟ وصح ما توقعت. خطوط ودوائر مبهمة بألوان عدة قد اخترقت حرمة البياض وشوهت نصاعته العتيقة، فما العمل؟لم تحاول تأمل أو فهم ما أضحى مكتوبا، نطق عمقها بيقين معتاد لا يرقى إليه ريب: ما هذا إلا عبث طفل أو حسد حاسد.ومرة أخرى حثت الخطى رتيبة محسوبة إلى حيث يجب في مثل هذه الحالات. عند بائع الأصباغ وبعد إشارة خفيفة خفية منها سأل الشاب الوسيم باحترام: الأبيض كالعادة ؟ ابتسمت وهي في عجلة من أمرها: نعم..يعطيك الصحة.في الغد خيّم على المكان كله صمت ثقيل لم ينسجم مع النضارة التي عاد إليها الجدار مرة أخرى.حتى الأشجار لم يتحرك فيها غصن ولا لحن. أقلقها هذا الشعور الجديد وتساءلت فجأة عن سر ما حدث أمس من امتزاج للخوف والارتياح، وها هي الآن ورقة في المهب. مرّ الليل كوابيس، ولم يحن الغد إلا بعد ترقّب قاس. كانت خطواتها نحو المخرج متعثرة، وبسرعة متلهف إلى محبوب جرت نحو جدارها. لم تفاجأ وتفاجأت، بل عجزت عن تحديد حقيقة حالها. مرة أخرى تخترق الغرابة عالمها، لكنها تفضل الآن حل شفرة المكتوب. كانت الحروف واضحة. هل سرّت حينها ؟ لماذا تأوهت إذن وهي تحدث الإسفلت الأصم: وماذا قيل أمس في حروف الجدار؟ فردد الصمت ببرودة صارمة صداها، لكنها قالت في إصرار: ليكتب من يكتب ولسوف أكتب أيضا. أحس البائع بشيء من الحرج حين قدم للشابة اللون الأبيض دون استئذان لكن الزبونة فاجأته: من فضلك أي لون تشاء إلا الأبيض.ثم أردفت كأنما لتطمئنه: لا بأس..لا بأس. الدنيا ألوان. كان الرعد يدوي إلا أن لعبة الكلمات شغلتها عن كل شيء، و كادت السيول أن تأتي على المدينة بأسوارها وجسورها وكل ما فيها إلا أنها تجاهلت الأمر بجميع تفاصيله دفعة واحدة وسقطت الجدران غير أن لعبة الكلمات استمرت. القصّة صارت جزءا من وجدان المدينة، غير أنّ خيال الصغار المولعين بالإنشاء كان يحلو له دائما بأن يضيف بعد رواية الحكاية : "سقطت كلّ الجدران غير أنّ الكلمات ظلت واقفة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق